فصل: تفسير الآيات (82- 85):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ولذلك عطف عليه {وَخَسِرَ هُنَالِكَ المُبْطِلُونَ} أي خسر الذين جَادلوا بالباطل ليُدحضوا به الحق.
والخسران: مستعار لحصول الضرّ لمن أراد النفع، كخسارة التاجر الذي أرادَ الربح فذهب رأس ماله، وقد تقدم معناه غير مرة، منها قوله تعالى: {فما ربحت تجارتهم} في أوائل سورة [البقرة: 16].
و{هنالك} أصله اسم إشارة إلى المكان، واستعير هنا للإِشارة إلى الزمان المعبر عنه بإذا في قوله: {فَإِذَا جَاءَ أمْرُ الله}.
وفي هذه الاستعارة نكتة بديعية وهي الإِيماء إلى أن المبطلين من قريش ستأتيهم الآية في مكان من الأرض وهو مكان بَدر وغيره من مواقع إعمال السيف فيهم فكانت آيات محمد صلى الله عليه وسلم حجة على معانديه أقوى من الآيات السماوية نحو الصواعق أو الريح، وعن الآياتتِ الأرضية نحو الغَرق والخسف لأنها كانت مع مشاركتهم ومداخلتهم حتى يكون انغلابهم أقطع لحجتهم وأخزى لهم نظير آية عَصَا موسى مع عِصيّ السحرة.
{اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (79)} انتقال من الامتنان على الناس بما سخر لأجْلهم من نظام العوالم العليا والسفلى، وبما منحهم من الإِيجاد وتطوره وما في ذلك من الألطاف بهم وما أدمج فيه من الاستدلال على انفراده تعالى بالتصرف فكيف ينصرف عن عبادته الذين أشركوا به آلهة أخرى، إلى الامتنان بما سخر لهم من الإِبل لمنافعهم الجمّة خاصّة وعامّة، فالجملة استئناف سادس.
والقول في افتتاحها كالقول في افتتاح نظائرها السابقة باسم الجلالة أو بضميره.
والأنعام: الإِبل والغنم والمعز والبقر.
والمراد هنا: الإِبلُ خاصة لقوله: {وَلِتَبْلُغُوا عَلَيهَا حَاجَةً} وقوله: {وَعَلَيْهَا وعَلَى الفُلْككِ تُحْمَلُونَ} وكانت الإِبل غالب مكاسبهم.
والجَعْل: الوضع والتمكين والتهيئة، فيحمل في كل مقام على ما يناسبه وفائدة الامتنان تقريب نفوسهم من التوحيد لأن شأن أهل المروءة الاستحياء من المنعم.
وأدمج في الامتنان استدلال على دقيق الصنع وبليغ الحكمة كما دل عليه قوله: {وَيُرِيكُم ءاياته} [غافر: 81] أي في ذلك كله.
واللام في {لكم} لام التعليل، أي لأجلكم وهو امتنان مُجمل يشمل بالتأمل كل ما في الإِبل لهم من منافع وهم يعلمونها إذا تذكّروها وعدُّوها.
ثم فصّل ذلك الإِجمال بعضَ التفصيل بذكر المهمّ من النعم التي في الإِبل بقوله: {لِتَرْكَبُوا منهَا} إلى {تحملون} فاللام في {لِتَرْكَبُوا منهَا} لام كي وهي متعلقة ب {جعل} أي لركوبكم.
و مِنْ في الموضعين هنا للتبعيض وهي صفة لمحذوف يدل عليه من أي بعضًا منها، وهو ما أعد للأسفار من الرواحل.
ويتعلق حرف مِن ب {تركبوا} وتعلُّقُ مِن التبعيضية بالفعل تعلق ضعيف وهو الذي دعا التفتازاني إلى القول بأن مِن في مثله اسمٌ بمعنى بعضضٍ، وتقدم ذلك عند قوله تعالى: {ومن الناس من يقول آمنا باللَّه} في سورة [البقرة: 8].
وأريد بالركوب هنا الركوب للراحة من تَعب الرِّجلين في الحاجة القريبة بقرينة مقابلته بقوله: {وَلِتَبلُغُوا عَليهَا حَاجَةً في صُدُورِكُم}.
وجملة {وَمِنْها تَأكُلُونَ} في موضع الحال من {الأنعام} أو عطف على المعنى من جملةِ {لِتَرْكَبُوا مِنْهَا} لأنها في قوة أن يقال: تركبونَ منها، على وجه الاستئناف لبيان الإجمال الذي في {جَعَلَ لَكُمُ الأنعام} وعلى الاعتبارين فهي في حيّز ما دخلت عليه لاَم كي فمعناها: ولتأكلوا منها.
وجملة {ولكم فيها منافع} عطف على جملة {وَمِنْهَا تَأكُلُونَ} والمعنى أيضًا على اعتبار التعليل كأنه قيل: ولتجتنوا منافعها المجعولة لكم وإنما غيّر أسلوب التعليل تفننًا في الكلام وتنشيطًا للسامع لئلا يتكرر حرف التعليل تكراراتتٍ كثيرة.
والمنافع: جمع منفعة، وهي مَفْعلة من النفع، وهي: الشيء الذي ينتفع به، أي يستصلح به.
فالمنافع في هذه الآية أريد بها ما قابل منافع أكل لحومها في قوله: {وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} مثل الانتفاع بأوبارها وألبانها وأثمانها وأعواضِها في الديَات والمهور، وكذلك الانتفاع بجلودها باتخاذها قبابًا وغيرَها وبالجلوس عليها، وكذلك الانتفاع بجَمال مرآها في العيون في المسرح والمراح، والمنافع شاملة للركوب الذي في قوله: {لِتَركبوا مِنهَا} فذكر المنافع بعد {لِتَركبوا منها} تعميم بعد تخصيص كقوله تعالى: {ولي فيها مئارب أخرى} [طه: 18] بعد قوله: {هي عصاي أتوكؤ عليها} [طه: 18]، فذُكر هنا الشائع المطروق عندهم ثم ذكر مثيله في الشيوع وهو الأكل منها، ثم عاد إلى عموم المنافع، ثم خص من المنافع الأسفار، فإن اشتداد الحاجة إلى الأنعام فيها تجعل الانتفاع بركوبها للسفر في محل الاهتمام.
ولما كانت المنافع ليست منحصرة في أجزاء الأنعام جيء في متعلقها بحرف في دون مِن لأن في للظرفية المجازية بقرينة السياق فتشمل كل ما يُعدّ كالشيء المحوي في الأنعام، كقول سَبْرَةَ بن عَمْرو الفقعسي من شعراء الحماسة يذكر ما أخذه من الإبل في ديةِ قريبٍ:
نحابي بها أكفاءَنا ونُهينُها ** وَنَشْرَب في أثمانها ونُقامر

وأنبأ فعل {لِتَبْلغوا} أن الحاجة التي في الصدور حاجة في مكان بعيد يطلبها صاحبها.
والحاجة: النية والعزيمة.
والصدور أطلق على العقول اتباعًا للمتعارف الشائع كما يطلق القلوب على العقول.
وأعقب الامتنان بالأنعام بالامتنان بالفلك لمناسبة قوله: {ولِتَبلُغُوا عَلَيها حَاجَةً في صُدُورِكُم} فقال: {وَعَلَيهَا وَعَلَى الفُلْككِ تُحمَلُونَ} وهو انتقال من الامتنان بجعل الأنعام، إلى الامتنان بنعمة الركوب في الفلك في البحار والأنهار فالمقصود هو قوله: {وعَلَى الفُلْككِ تُحْمَلُونَ}.
وأما قوله: {وعليها} فهو تمهيد له وهو اعتراض بالواو الاعتراضية تكريرًا للمنّة، على أنه قد يشمل حمل الأثقال على الإِبل كقوله تعالى: {وتحمل أثقالكم} [النحل: 7] فيكون إسناد الحمل إلى ضمير الناس تغليبًا.
ووجه الامتنان بالفلك أنه امتنان بما ركَّب الله في الإِنسان من التدبير والذكاء الذي توصل به إلى المخترعات النافعة بحسب مختلف العصور والأجيال، كما تقدم في سورة [البقرة: 164] عند قوله تعالى: {والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس} الآيات، وبيّنا هنالك أن العرب كانوا يركبون البحر الأحمر في التجارة ويركبون الأنهار أيضًا قال النابغة يصف الفرات:
يظل من خوفه الملاح معتصمًا ** بالخيزرانة بعد الأيْن والنجَد

والجمع بين السفر بالإِبل والسفر بالفلك جمع لطيف، فإن الإِبل سفائن البر، وقديمًا سموها بذلك، قاله الزمخشري في تفسير سورة المؤمنين.
وإنما قال: {وَعلَى الفُلْكِ} ولم يقل: وفي الفلك، كما قال: {فإذا ركبوا في الفلك} [العنكبوت: 65] لمزاوجة والمشاكلة مع {وعليها} وإنما أعيد حرف على في الفلك لأنها هي المقصودة بالذكر وكان ذكر {وعليها} كالتوطئة لها فجاءت على مثالها.
وتقديم المجرورات في قوله: {وَمِنْهَا تأكُلُون} وقوله: {وَعَلَيها وعَلَى الفُلْكِ} لرعاية على الفاصلة مع الاهتمام بما هو المقصود في السياق.
وتقديم {لكم} على {الأنعام} مع أن المفعول أشد اتصالًا بفعله من المجرور لقصد الاهتمام بالمنعَم عليهم.
وأما تقديم المجرورين في قوله: {وَلَكُمْ فِيهَا منافع} فللاهتمام بالمنعم عليهم والمنعم بها لأنه الغرض الأول من قوله: {الله الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأنعام}.
{وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ (81)} عطف على جملة {لَكُمُ الأنعام} [غافر: 79] أي الله الذي يريكم آياته.
وهذا انتقال من متعدد الامتنان بما تقدم من قوله: {الله الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الليْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ} [غافر: 61]، {الله الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ قَرَارًا} [غافر: 64]، {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِن تُرَابٍ} [غافر: 67]، {الله الَّذِي جَعَلَ لَكمُ الأنعام} [غافر: 79]، فإن تلك ذكرت في معرض الامتنان تذكيرًا بالشكر، فنبّه هنا على أن في تلك المنن آيات دالة على ما يجب للَّه من الوحدانية والقدرة والحكمة.
ولذلك كان قوله: {وَيُرِيكُمْ ءاياته} مفيدًا مُفاد التذييللِ لما في قوله: {آياته} من العموم لأن الجمع المعرف بالإِضافة من صيغ العموم، أي يريكم آياته في النعم المذكورات وغيرها من كل ما يدلّ على وجوب توحيده وتصديق رسله ونبذِ المكابرة فيما يأتونهم به من آيات صدقهم.
وقد جيء في جانب إراءة الآيات بالفعل المضارع لدلالته على التجدد لأن الإِنسان كلما انتفع بشيء من النعم علم ما في ذلك من دلالة على وحدانية خالقها وقدرته وحكمته.
والإِراءة هنا بَصرية، عُبر بها عن العلم بصفات الله إذ كان طريق ذلك العلم هو مشاهدة تلك الأحوال المختلفة فمن تلك المشاهدة ينتقل العقل إلى الاستدلال، وفيه إشارة إلى أن دلالة وجود الخالق ووحدانيته وقدرته برهانية تنتهي إلى اليقين والضرورة.
وإضافة الآيات إلى ضمير الجلالة لزيادة التنويه بها، والإرشاد إلى إجادة النظر العقلي في دلائلها، وأما كونُها جائية من لدن الله وكونُ إضافتها من الإِضافة إلى ما هو في معنى الفاعل، فذلك أمر مستفاد من إسناد فعل {يريكم} إلى ضميره تعالى.
وفرع على إراءة الآيات استفهام إنكاري عليهم من أجل إنكارهم ما دلت عليه تلك الآيات.
وأيّ اسم استفهام يطلب به تمييز شيء عن مشاركه فيما يضاف إليه أيُّ، وهو هنا مستعمل في إنكار أن يكون شيء من آيات الله يمكن أن ينكر دون غيره من الآيات فيفيد أن جميع الآيات صالح للدلالة على وحدانية الله وقدرته لا مساغ لادّعاء خفائه وأنهم لا عذر لهم في عدم الاستفادة من إحدى الآيات.
والأكثر في استعمال أي إذا أضيفت إلى اسم مؤنثثِ اللفظ أن لا تلحقها هاء التأنيث اكتفاء بتأنيث ما تضاف إليه لأن الغالب في الأسماء التي ليست بصفات أن لا يُفْرَق بين مذكرها ومؤنثها بالهاء نحو حمار فلا يقال للمؤنث حمارة.
وأيّ اسم ويزيد بما فيه من الإِبهام فلا يفسره إلا المضاف إليه فلذلك قال هنا {فَأَيَّ ءاياتت الله} دون: فأيَّة آيات الله، لأن إلحاق علامة التأنيث ب أي في مثل هذا قليل، ومن غير الغالب تأنيث أي في قول الكميت:
بأي كتاب أم بأيَّةِ سُنة ** تَرى حُبهم عارًا عليَّ وتَحسبُ

اهـ.

.تفسير الآيات (82- 85):

قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (83) فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ (85)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما وصل الأمر إلى حد من الوضوح لا يخفى على أحد، تسبب عنه لفت الخطاب عنهم دلالة على الغضب الموجب للعقاب المقتضي للرهيب فقال: {أفلم يسيروا} أي هؤلاء الذين هم أضل من الأنعام {في الأرض} أيّ أرض كانت، سير اعتبار {فينظروا} نظر ادكار فيما سلكوه من سلبها ونواحيها، ونبه زيادة العظمة فيما حثهم على النظر فيه بسوقه مساق الاستفهام تنبيهًا على خروجه عن أمثاله، ومباينته لأشكاله، بقوله: {كيف كان عاقبة} أي آخر أمر {الذين} ولما كانوا لا يقدرون على استغراق نظر جميع الأرض وآثار جميع أهلها، نبه بالجار على ما تيسر فقال تعالى: {من قبلهم} أي مع قرب الزمان والمكان، لوما كانوا معتمدين في مغالبة الرسول صلى الله عليه وسلم ومجادلته بالباطل في الآيات الظاهرة على كثرتهم وقوتهم وقلة أصحابه مع ضعفهم، وكان قد تقدم الإنكار عليهم في المجادلة لإدحاض الحق، وعظيم النكير عليهم بعدم النظر عن المسير في الأرض بأعين الاعتبار في الآثار، من المساكن والديار، لمن مضى من الأشرار، وأثبت لهم الأشدية وأنها لم تغن عنهم، وذكر فرعون وما كان له من المكنة بالمال والرجال، وأنه أخذه أخذة صارت مثلًا من الأمثال، وكان قد بقي مما قد يتعلل به في المبالغة الكثرة، ذكرها مضمومة إلى الشدة تأكيدًا لمضمون الخبر في أنه لا أمر لأحد مع أمره، فقال مستانفًا جوابًا لمن يقول: ما كانت عاقبتهم؟ فقال: {كانوا أكثر منهم} أي عددًا أضعافًا مضاعفة ولاسيما قوم نوح عليه الصلاة والسلام: {وأشد قوة} في الأبدان كقوم هود عليه الصلاة والسلام الذين قالوا كما يأتي في التي بعدها.
{من أشد منا قوة} [فصلت: 15] {وآثارًا في الأرض} بنحت البيوت في الجبال، بقوة أبدانهم وعظم عقولهم واحتيالهم وما تبوا من المصانع لنجاتهم حين جاءهم أمرنا بل كانوا كأمس الذاهب.
ولما أخبر عن كثرتهم وقوتهم وآثارهم الدالة على مكنتهم، سبب عنه شرح حالهم، الذي أدى إلى هلاكهم واغتيالهم، فقال مبينًا لما أغنى: {فلما جاءتهم رسلهم} أي الذين أرسلناهم إليهم وهم منهم يعرفون صدقهم وأمانتهم {بالبينات} أي الدالة على صدقهم لا محالة {فرحوا} أي القوم الموصوفون {بما عندهم من العلم} الذي أثروا به تلك الآثار في الأرض من إنباط المياه وجر الأثقال وهندسة الأبنية ومعرفة الأقاليم وإرصاد الكواكب لأجل معرفة أحوال المعاش، وغير ذلك من ظواهر العلوم المؤدية إلى التفاخر والتعاظم والتكاثر وقوفًا مع الوهم، وتقييدًا بالحاضر من الرسم من علم ظاهر الحياة الدنيا وقناعة بالفاني كما قال التي قبلها.
{ثم إذا خولناه نعمة منا قال إنما أوتيته على علم} [الزمر: 49] وكما قال قارون لما قيل له {وأحسن كما أحسن الله إليك} {قال إنما أوتيته على علم عندي} وفرحهم به لأداهم إلى التوسع في الدنيا والتلذذ بما واستهزوا بما اتتهم به الرسل من علم الباطن الداعي إلى الإعراض عن الفاني والإقبال على الباقي والخوف مما بعد الموت من الأمور الغائبة والأهوال الآتية والكوائن العظيمة المستورة بحجاب هذه الحياة الدنيا الواهي، على ما فيها من الذوات والمعاني والأحوال والأوجال والدواهي، والذي حركهم إلى الفرح بما عندهم هو ما هم فيه من الزهرة مع ما يرون من تقلل الرسل وأتباعهم من الدنيا، وإسراع المصائب إليهم، وكثرة ما يعانونه من الهموم والأنكاد، ويكابدونه من الأنداد والأضداد، فاشتد استهزاؤهم بهم وبما أتوا به من بعدّهم ذلك محالًا وباطلًا وضلالًا، وكانوا لا ينفكون من فعل الفرح الأشر البطر بالتضاحك والتمايل كما قال الله تعالى: {فلما جاءهم إذا هم منها يضحكون} ونصبوا للرسل واتباعهم المكايد، وأحاطوا بهم المكر والغوايل، وهموا بأخذهم فأنجينا رسلنا ومن آمن بهم منهم وأتيناهم بما أزال فرحهم، وأطال غمهم وترحهم {وحاق} أي أحاط على وجه الشدة {بهم بما كانوا} أي عادة مستمرة.